قصتي مع عائلة باسم يوسف

بقلم: هدى راشد

ترجمة: مصطفى حلمي

رابط مدونة هدى راشد باللغة الإنجليزية



المرض المزمن بيخليك مختلف عن باقي الناس..الألم هو صديقي، من وأنا عندي 10 أو 12 سنة.
ولأني كنت طول عمري رياضية، كنت فاكره إن الألم جزء من إرهاق الرياضه، لازم تتعود عليه، وتتعامل معاه، لأن مافيش مفر.
لا يمكن أنسى أنا أو أمي، الكوفية الصوف الزرقا بتاعتي..لما الألم يبتدي بالليل، أطلعها وأربطها حوالين ركبتي، لغاية ما من كتر الإستعمال، بقت طويله بشكل غريب، وبقيت لازم ألفها كتير حوالين ركبتي، لغاية ما بتعمل ربطه كبيره أكيد كانت بتخلي شكلي عجيب وأنا ماشيه بيها.

بالوقت، الألم إنتشر في مفاصل جسمي، والدكاتره إحتاروا في تفسير ليه، بنت رياضيه عندها 20 سنة، بتعاني من مشاكل في ركبها وضهرها وإيديها، ونقص شديد في الوزن، وإرهاق، وصداع مزمن ووجع في فروة الرأس، وقرح مفتوحه، كنت بشوف مصفف الشعر بتاعي وهو بيتغامز مع زملاؤه عليها، وهم بيتسائلوا إذا كان لازم يعقم أدواته بعد ما يستخدمها في شعري...وعادة الدكاتره في الآخر كان بينتهي بيهم الأمر إنهم يكتبولي على جرعات بنسلين مطوله وأنواع أنتيبايوتيك مخلتلفه.
ومع السن والجواز، بدأت مشاكل جديده..
متاعب في حدوث حمل، وإجهاض إضطراري، وعدوى متكرره، وحمى..وكل مشكله من دول، بيعالجها دكتور مختلف، بيوصف أدويه مختلفه ويدي تعليمات مختلفه، لغاية ما تعبت في التوفيق بين تعليماتهم وكرهت تحكمهم وتأثيرهم على حياتي.

بالنسبه لمعظم الدكاتره، أنا ماكنتش إنسانه، أنا مجرد عرض وعلاج، حاله، مافيش أي إهتمام حقيقي بيَّ كبني آدمه، وفهمت إني لازم أتعامل مع مرضي وأوجاعي بنفسي، وإني لازم أرجع للكوفيه الصوف الزرقا وأربطها على حياتي كلها.
في الآلام المزمنه، فهمت إني لو قدرت أستحمل أسوأ ألم ممكن، يبقى أقدر أتعايش مع الألم المستمر الأقل حده.
للمافصل اللي زي ضهري والفخذ، كنت بتعامل معاها بمزيج من الرياضه والمسكنات، وللمفاصل الأصغر اللي زي مفاصل الإيد، كنت بمسك أواني تحت الحنفيه وأفضل أملاها ميه، لغاية ما الألم يبقى لا يحتمل، وساعتها بس، لما بعرف الألم ممكن يبقى عنيف قد إيه، بقدر أستحمل الألم اللي عايشه بيه وأنا مش شايله الوزن ده، وأقدر أتجاهله.
بعد 6 سنين من الجواز وبعد ما سني تجاوز ال30، أخيرا دكتور مصري مقيم في ألمانيا قدر يزيح الستار عن المرض بتاعي اللي إستعصى تشخيصه كل السنين دي على باقي الدكاتره.

إسمه Mixed Connective Tissue Disorder.

فرحتي بتشخيص العدو الخفي اللي بقى له سنين بيضرب فيَ من غير ماعرف هو مين، سرعان ما زالت، لما عرفت إن الحل الطبي المتاح، هو مجموعه من الكيماويات اللي هتموت أجزاء من جسمي بمعدلات متفاوته.
الظاهر إن إنكتب عليا أفضل مع كوفيتي الصوف الزرقا بقية عمري.
بعد ما بقى عندي طفلين، وإزدياد الوضع سوءا، فهمت إني مضطره إني أتخلى عن نشاطي المعتاد. الصحيان من النوم بقى مصحوب بتخشب في جسمي، والنزول من السرير بقى عمليه مرهقه بتاخد وقت ومجهود لغاية ما أقدر أتحرك بشكل طبيعي.
وزاد على مشاكلي، عرض جديد مرعب لمرضي المليء بالمفاجئات، وهو فقدان جزئي للذاكره، بيحصل بشكل عشوائي.
ذكريات تعرفي على زوجي، ذكريات طفولة إبني، ومعظم ذكرياتي قبل ميلاده، كلها ضاعت.
ومع مرور الوقت، شاءت الظروف إني أنتقل أنا وعائلتي لأمريكا، وكعادة كتير من أسر المهجر، قررنا نزود عيلتنا بطفل ثالث، ولادتها كانت مليئه بالصعوبات، وبعد 6 أسابيع من الولاده، لاقيت نفسي ووزني زائد من الحمل بشكل مخجل، قاعده في سان دييجو في مطعم مع باسم يوسف ومراته ومجموعه من الأصدقاء، وأنا بفكر إزاي سمحت لنفسي أخرج معاهم بشكلي وحالتي دول.
ماكنتش أعرف إن اللي هيقوله باسم يوميها، هيغير حياتي.

علاقتي بباسم يوسف كانت معرفه منذ الطفوله.

كعادة أبناء الطبقه الفوق المتوسطه في مصر، إستعضنا عن الحدائق والمتنزهات – أو إنعدامها – بالنوادي الرياضيه.
لو انت من رواد نادي الجزيره، مع دخولك من الباب المواجه لفندق الماريوت، عند باب الجيم، فيه شخص دائم الوقوف هناك، الشخص ده هو باسم يوسف.
شخص من أكثر الشخصيات المحبه للحياه، بيستغل فرصه إلتقاط أنفاسه بين تمرينات الجيم، عشان يقف عند الباب بتاعه يتواصل مع الأصدقاء والمعارف، ولو أنت من الأشخاص اللي باسم بيحبهم، ومعدي من هناك، إعرف إن فيها على الأقل تلت ساعه على ما تكمل طريقك للمكان اللي أنت كنت رايحه، لأن الوقت أكيد هيسرقك في الكلام معاه، وحماسه المنقطع النظير وفرحته بمقابلتك وحديثه الشيق المستمر.

على مر السنين، من خلال لقاءات الصدفه المتكرره، تابعت حكايات باسم من أول تخرجه من المدرسه، للرياضات اللي كان بيمارسها، للماراثونات اللي كان بيشارك فيها، ومع تقدمنا في العمر، حواراتنا بقت أعمق، لغاية ما في يوم، وأنا حامل في أولادي التوأم، أسريت له بإن عندي آلام ملحوظه في الصدر ، وإني عايزه أروح أكشف من غير ما أزعج حد من عيلتي أو أخضهم.
في الوقت ده باسم كان جراح تحت التمرين في قسم جراحة القلب. وفعلاً في وقت قصير، كان جايب لي ميعاد مع دكتور قلب كبير متخصص في أمراض القلب أثناء الحمل! وإستقبلني باسم في المستشفى بنفسه، وفضل متابعني طول الوقت، بشكل أثر فيا جداً وبيبين قد إيه هو شخص أصيل، وصديق حقيقي.
غير مقابلة المستشفى دي، وكام إسبوع تتطوع فيهم باسم بتدريب الأطفال على الرقص في مدرسه صيفيه ترفيهيه، كان عمري ما قابلت باسم بره النادي.

في الوقت ده عرفت إني قلبي سليم، لكن التوأم ماكانوش بخير، وتلى ده ولاده قبل أوانها، ثم وفاتهم المتتابعه...ويمكن دي البذره اللي بدأت فكرة الهجرة لأمريكا.
مع حمل جديد متعثر، وبداية إنتقالي لأمريكا، توارت صلتي بباسم، إلى أن أحياها مره تانيه الFacebook.

مش فاكره مين ضاف مين، لكن بقينا بنشوف لمحات من حياة بعض على الفيسبوك، زواج باسم من زوجته الجميله، وقيام الثوره، وتحول باسم من جراح قلب، لظاهره إعلاميه.
أنا وزوجي تابعنا باسم وبرنامجه، وبقينا من أشد معجبيه، وبقى طقس دائم لينا يوم الجمعه إننا نقعد قدام التلفزيون، ونستمتع بحلقات البرنامج. وتابعنا بمزيج من الإعجاب والقلق، وباسم بيكسر كتير من الحواجز وبيتجاوز خطوط حمرا في مجتمعنا، ممكن مايقدرش يساعده أو يحميه بعدها حبيب أو صديق.

لغاية ما في يوم، بعد حلقه قوية جداً من حلقاته، إستجمعت شجاعتي، وبعت له رساله على فيسبوك وأنا ماعنديش أي أمل إنه يرد، لأنه أكيد في وضعه الجديد بيتلقى مئات الرسائل، ومش بيلاحق، وعنده حاجات أهم يعملها.
بمعجزه، في خلال 24 ساعه، كان رادد على رسالتي، وبمرور الوقت الرساله دي تحولت لحوار ممتد بينا أونلاين، وصداقه تجددت أوصارها بين عائلتين، وقواها زياراته المتكرره لأمريكا بسبب شغله، وتعارف أسرتينا على بعض، وإستمتاعنا بصبحبة بعضنا، اللي كنا بنحاول أنا وزوجي نبعد فيها عن الكلام عن قلقنا عليه من تبعات جرأته وتغير المناخ السياسي في مصر.
تابعنا كل التغيرات اللي بتحصل لباسم، وعيشناها معاه، من أول إنتقال البرنامج لقناة فضائيه مختلفه، لوفاة والدته، للمقال المؤلم اللي كتبه بعد وفاتها، اللي فاكره إنه بكاني، لـغاية اللحظه اللي شوفته فيها واقف على المسرح، بإبتسامه واسعه – رغم كل شيء – بيعلن بيها إن دي آخر حلقه للبرنامج!

وبالرغم من كل الأحداث والمشاكل اللي هو في وسطها، باسم عمره ما إنقطع في السؤال عني وعن صحة طفلتي اللي لسه مولوده، اللي مانسيش يبارك لي على قدومها.
كل ده، يرجعنا تاني لليوم اللي كنت قاعده فيه أنا وزوجي مع باسم وزوجته وأصدقاءنا في المطعم إياه بسان دييجو.

اللي لفت نظر باسم، ماكانش زيادة وزني، وإنما كانت حبوب الدوا اللي كنت باخدها، وعدم مقدرتي على حمل البيبي، الحاجات اللي عيشت عمري بخبيها عن الناس، كانت باينه وضوح الشمس يوميها.

قعدني باسم أنا وزوجي، وبدا يشرح بصبر الدور المهم اللي التغذيه بتلعبه في حياتنا، والتأثير المهول اللي بيلعبه النظام الغذائي الخاطئ اللي بنتبعه، وتأثيره على الصحه والمناعه، والدور اللي بيلعبه في الأمراض الauto immune بالذات.
عليَّ إني أمتنع عن المنتجات الحيوانيه (بما فيها البيض) والسكر، وأحد من إستخدام الزيوت، ووعدته في لحظتها إني هتبع النظام النباتي اللي هو عرضه كحل لمشكلتي.
بعد رحلة باسم لسان دييجو، عرفنا إن الموقف تأزم في مصر، وإن قرارات تعسفيه صدرت بتقطع عليه خط العوده للبلد، وتخلي وجوده فيها شبه مستحيل.

وبالرغم من ظروفه العصيبه، وعدم رغبته في الكلام عنها، باسم إستمر في السؤال الدائم عن صحتي وكان بيجاوب كل إستفساراتي عن النظام الغذائي، وإزاي ممكن أستبدل الزيوت بمرقة الخضار، وإستحمل سؤالي حتى عن التفاصيل الصغيره.
وده أكد لي اللي عرفته عنه طول عمري، وهو إن باسم مابيبقاش سعيد إلا لو بيعمل فرق في الدنيا وفي حياة الناس.
ومع إلتزامي بالنظام، بدأ الألم يتقشع، سنه بسنه.
لما رجع تاني في زياره هو وأسرته، كنت فقدت 25 كيلو من وزني، وكل الإلتهاب اللي في جسمي إختفى، وتحاليلي كلها أصبحت مطمئنه.
ومرة أخرى أضطر أنا وزوجي لتوديع باسم، ونستنى لغاية ما نشوفه تاني بعدها بشهور بمجيئه للتدريس لمدة تيرم في جامعة هارفارد.
بعد إنتهاء التيرم، إحتفلنا بعيد ميلاد باسم، ونجاح فترة التدريس بتاعته، وبعدها كان علينا إننا نودعه هو أسرته تاني.
بعدها عرفنا بوفاة والد باسم، وكعادته، باسم ماكانش عايز يتكلم عن أحزانه، وبيفضل يختفي، ومايظهرش إلا عشان يسأل عن صحتي أو يرد على سؤال سألتهوله عن الدايت.
وفي يوم، كان جاي لمده يوم واحد عشان لقاء معمول معاه في جامعة ستانفورد.

حجز لنا كراسي في الصفوف الأولى للندوه، وقعدنا أنا وزوجي نتفرج على باسم، اللي كعادته أبهر الجمهور وشد إنتباه كل فرد في القاعه، وأضحنا وأبكاني في نهاية الندوه، اللي بعد نهايتها، تزاحم المعجبين عليه، وإضطر المنظمين يخرجوه من باب خلفي، عشان يركب عربيه متجهه بيه للمطار، ومالحقناش نسلم عليه أو نتكلم معاه.
لكن في طريقنا للرجوع، رن جرس التليفون، وسمعنا منه صوت باسم، اللي بيكلمنا يشكرنا على حضورنا..قعدنا نعد له الحاجات اللي ضحكتنا أثناء اللقاء، وتقريباً سمعناه اللقاء كله تاني في التليفون، ولما قفلنا، كنا عارفين إنها هتبقى فتره تانيه قبل ما نشوف باسم تاني..اللي دايماً متنقل ودايماً عنده مكان ما لازم يبقى موجود فيه.
اللي فهمته دلوقتي، إن منع الأشياء السيئه من الحدوث غير ممكن، لكن المهم هو إزاي بنتداوى بعدها.
حاسه إني ممتنه إن عندي صديق بيستمد قوته في الدنيا من تأثيره في حياة الآخرين، ومداواتهم.
أتمنى إن المداواه تكون متبادله.